الامتحان الأكبر و الامتحان الأصغر
تعيش البيوت في هذا الشهر أزمةً الامتحانات التي تطرق الأبواب كل عام ... و قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى ، والاستعداد الكامل ، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان ! وهذا جهدٌ مشكور ، وعملٌ مأجور ، إذا صلُحت النيَّة ، وخلُص المقصِد لله ربِّ العالمين .
ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام ، من أجل هذا الامتحان ، ثمَّ نظرها إلى ضعف الاستعداد ، وشدَّة الغفلة ، عن ذلك الامتحان الرهيب ، الذي خلقنا الله تعالى من أجله ، وأنشأنا له ، قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ...
والفرق واسع ، بين امتحان الدنيا، وامتحان الآخرة.. وإليكم أوجهاً من ذلك التباين ، والاختلاف بين الامتحانين ...
فمن حيث المـوضـوع
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب ، في مجالٍ من مجالات الحياة ؛ أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، وأحاط بالحركات والسَّكنات ، وألمَّ بالخطرات ، والزلاَّت !
قال تعالى : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا )
ومن حيث الأسـئـلة
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليـه 0
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لجوانب الحياة ، شاملة لدقائق العمر ..
قال تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا ..... لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ..... ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
ومن حيث المـكـان
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ ، ومكانٍ معدٍّ ، فالكراسي مريحة ، والأنوار ساطعة ، والأمن والأمان متوافران في مكان الامتحان .
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب ، وموقفٍ عصيب ، ومكانِ عجيب ..
قال تعالى : ( يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )
ومن حيث الزمـان
امتحان الدنيا إن طال زمانه ، وامتدَّ أوانه ، فهو في ساعةٍ من نهار ، وربما أكثر بقليل
أما امتحان الآخرة فهو في ( يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) 0
ومن حيث المـراقب
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك ، محدود القدرات ، معدود الإمكانات ، ينسى ويغفل ، ويسهو ويتنازل ، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان !
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ، لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة ، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .
قال تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم ...)
ومن حيث النجاح
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها .. والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة لا يساوي في نعيم الآخرة ، إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ .
قال صلى الله عليه وسلم : .. ولموضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ ، خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها ، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بين المشرق والمغرب
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار ، والدخول إلى الجنَّة ، فضلاً من الله ومِنَّة !
قال تعالى : ( فمن زحزح عن النَّار ، وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور )
ومن حيث الرسوب
الإخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ ، لمرتبة من الدنيا ، لا تساوي عند الله جناح بعوضة .
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة ، فخسارة الأبد ، وندم لا ينقطع ، وعذاب لا ينتهي ، وعقاب لا ينقضي . يوم يُكبُّ المجرم على وجهه في نارٍ تلظَّى ، لا يصلاها إلاَّ الأشقى ، فيخسر نفسه وأهله وماله .قال تعالى : ( قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين )
ومن حيث فرص للتعويض
امتحان الدنيا أسوأ ما فيه الرسوب ، وغالباً يكون لدى الراسب فرصةٌ أخرى ...
فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه ، وكان الخير في إغلاقه ، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن ، والرزايا والفتن .
قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
أمَّا امتحان الآخرة فلا فرصة ثانية ولا كرَّة آتية ..
وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها ، وتنقضي أوقاتها ، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى الكبير المتعال !
قال تعالى : ( ثمَّ ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )
وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد ( ربِّ ارجعون )
لِمَ أيُّها الغافل ؟! ( لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )
فهل يجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟!
( كلاَّ . إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون )
والخـاتمـة
اليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل !
فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً ، نُسرُّ به يوم نُعرض عليه ، ونقف بين يديه ، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز ، ويزج كلِّ خاسر إلى نار السَّموم (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ )
وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين !
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أنَّ السَّـلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يســــكنها إلاَّ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخـــــير طاب مســــكنه وإن بناها بشرٍّ خاب بانيـــــها
والحمد لله رب العالمين